السلام عليكم ورحمة الله تعالى وركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
فقه الواقع أو فقه الهوى
هناك من يخلط بين المفاهيم والمصطلحات لغرض في نفسه، فإذا وجد مسألة فقهية لا تتفق مع ميوله ورغباته خرجها على فقه الواقع بعد أن يغير في الحكم تبعاً لما يناسبه، وهذا أمر خطير جداً أن نلوي أعناق الأحكام الشرعية حتى توافق هوانا ثم نقول هذا من فقه الواقع، حتى أصبح فقه الواقع بمثابة الشماعة التي يلصق بها كل مستجد في الحياة حتى وإن خالف أصل الشرع، ما دام ذلك يتفق مع هوى النفس، أين هذا المفهوم من قول الله تعالى:
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ .
وبناءً على ذلك أحب أن أوضح أن الواقع قسمان:
واقع له أثر في الأحكام الشرعية.
وواقع لا أثر له في الأحكام الشرعية.
فليس كل ما يقع بين الناس، أو يحدثونه في حياتهم من العادات يسمى فقه الواقع، وليس كل ذلك مؤثرا في الأحكام الشرعية، أو تبنى عليه الأحكام الشرعية، بل لدينا الميزان الشرعي الذي نزن به المسألة الحادثة، فإن كانت لا تعارض نصاً من كتاب ولا سنة ولا قاعدة شرعية فهي من الأمور المباحة، ونبحث عما يناسبها من الأحكام الشرعية، وهذا هو فقه الواقع الذي يعني تنزيل المسألة الحادثة على الحكم الشرعي. ومن يجعل كل أمر حادث مغيراًً للحكم فعلمه قاصر، ولم يؤت حظاً من العلم الشرعي.
كما أن الأصل المتفق عليه وهو الحكم القطعي لا يغيره فقه الواقع، وإنما فقه الواقع خاص بالمسائل الاجتهادية، التي تتغير بتغير الزمان والمكان.
ومن الأمثلة على النوع الأول: الرمي قبل الزوال في أيام التشريق، فقيل بالجواز مع أنه خلاف السنة في حال الزحام الشديد الذي أثبته واقع الحج في العصر الحاضر، خاصة قبل توسعة الجمرات. وجواز المبيت ليالي التشريق خارج منى لمن لم يجد مكانا بمنى، والواقع يشهد لضيق المكان نظراً لكثرة الحجاج. فهذا من فقه الواقع المؤثر في الحكم.
ومن الأمثلة على النوع الثاني: القول بإباحة المعازف وسماع الأغاني، لأن الواقع - على حد زعمهم - يقتضيه، حيث الزخم الإعلامي الذي تعيشه المجتمعات اليوم الذي أعطى الفن رواجاً منقطع النظير في وسائل الإعلام المختلفة، مما جعل الموسيقى والطرب أمراً حتمياً في معظم المناسبات، وهذا غير صحيح. وإنما أرادوا إتباع الهوى لتحقيق رغبتهم، وجعلوه من فقه الواقع كذباً وزورا.
ومن الأمثلة على النوع الثاني - أيضا -: (القول بجواز تأخير الصلاة عن وقتها بدون عذر) فمن الناس من يقول إن الواقع اليوم سهر بالليل وعمل بالنهار وهذا يحول دون أداء صلاة الفجر في وقتها، فكثير من الناس اليوم لا يصليها إلا بعد طلوع الشمس، فهل هذا الواقع مؤثر؟، لا، الحكم باق على حاله ومن أخر الصلاة عن وقتها بدون عذر فهو آثم، ومثل هذا لا يقوى الواقع على تغييره مهما بلغ، ولو صح ذلك لما شرعت صلاة الخوف، فواقع المعركة وشدة الحرب أكبر واقع مؤثر ومع ذلك تصلى الصلاة في وقتها بصفتها المشروعة.
وورد إلي سؤال بالهاتف يقول السائل: أنا مقبل على زواج في إجازة الحج، وسأحتاج إلى الحلق من باب الزينة، وقد نويت أن أضحي فهل يجوز لي ذلك، وهل يعد هذا من فقه الواقع؟ فقلت سبحان الله هل هذا الأمر مؤثر في تغيير الحكم إذا كان المقصود بالحلق حلق الرأس؟، أما إذا كان المقصود حلق الوجه (الذقن) فالأمر أشد، لأن النهي عن حلقه مطلق في كل وقت، ولا يخص من أراد أن يضحي. ولكن هذا من المتناقضات العجيبة في حياتنا، كمن يقيم الندوات والدورات والإعلانات المكثفة في سبيل مكافحة التدخين، ويصرف على ذلك الأموال الطائلة، وهو- أي الدِخان- يباع في التموينات وفي الأسواق بأرخص الأسعار وفي متناول كل يد وبدون أي تحفظ، فأنت تبني وغيرك يهدم. وهل كون شرب الدخان مما شاع وانتشر بين العامة والخاصة يجعله من فقه الواقع فيقال بإباحته؟، هذا من المغالطات التي يجب التنبه لها حتى لا نفقد شرعيتنا ومقاصدنا الشرعية بحجة فقه الواقع ممن لا يفقه ذلك.
للدكتور ابراهيم بن ناصر الحمود
الاستاذ في المعهد العالي للقضاء